فصل: تفسير الآية رقم (185):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (185):

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}
والمعنى: كل نفس مخلوقة حية، والذوق هنا: استعارة {وإنما} حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن المعنى: أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب، و{زحزح} معناه: أبعد، والمكان الزحزح: البعيد، وفاز معناه: نجا من خطره وخوفه، و{الغرور}، الخدع والترجية بالباطل، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين، قال عبد الرحمن بن سابط: {متاع الغرور} كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن، قال الطبري: ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره.
قال القاضي: و{الغرور} في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في المثل: غش ولا تغتر، أي لا تجتز بما لا يكفيك، وقال عكرمة: {متاع الغرور}، القوارير أي لابد لها من الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من عكرمة، وقرأ عبد الله بن عمر {الغَرور} بفتح الغين، وقرأ أبو حيوة والأعمش: {ذائقة} بالتنوين {الموت} بالنصب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها}، ثم تلا هذه الآية.

.تفسير الآيات (186- 187):

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك قول فنحاص: إن الله فقير ونحن إغنياء، وقوله: يد الله مغلولة إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره: نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و{الأذى}: اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و{العزم}: إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال:
إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ ** وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا

وقال النقاش: العزم والحزم بمعنى واحد: الحاء مبدلة من العين.
قال القاضي: وهذا خطأ، والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، والعزم: قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: {وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت} [آل عمران: 159] فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم.
قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} الآية، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم. والعامل في {إذ} فعل مقدر تقديره اذكر، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد أمة، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج: الآية في اليهود خاصة، أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه، قال مسلم البطين: سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقالم رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له: نزلت في يهود أخذ الميثاق عليهم في أمر محمد فكتموه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبيننه} فيجيء قوله: {فنبذوه} عائداً على الناس الذين بين الأنبياء لهم، وقال قوم من المفسرين: الآية في اليهود والنصارى، وقال جمهور من العلماء: الآية عامة في كل من علمه الله علماً، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وقد قال أبو هريرة: إني لأحدثكم حديثاً، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} [البقرة: 174] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: {ليبيننه للناس ولا يكتمونه}، بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما، وكلا القراءتين متجه، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب، وفي قراءة ابن مسعود {لتبينونه} دون النون الثقيلة، وقد لا تلزم هذه النون لام القسم، قاله سيبويه، والنبذ الطرح، وقوله تعالى: {وراء ظهورهم}، استعارة لما يبالغ في اطراحه، ومنه {واتخذتموه وراءكم ظهرياً} [هود: 92] ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
تَميم بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجتي ** بظهرٍ فَلا يعيى عليَّ جَوابُها

ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوني كقدح الراكب. أراد عليه السلام، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم، وهو موضع القدح ومنه قول حسان: [الطويل]
كَمَا نِيطَ خلْفَ الراكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ

والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في معناه، لأن الراكب يحتاجه، ومحله من محلات الراكب جليل، والثمن القليل: هو مكسب الدنيا. وباقي الآية بين.
قال أبو محمد: والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة ويتصف بها.

.تفسير الآيات (188- 190):

{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)}
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: {الذين يفرحون} فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة: الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا: كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية، فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن يقال لهم: إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم، وقالت جماعة كثيرة من المفسيرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة فقال ابن عباس رضي الله عنه: أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته، وقال ابن عباس أيضاً والضحاك والسدي: أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر نبوته، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة، وقالوا هم ذلك عن أنفسهم، وقال مجاهد: فرحوا بإعجاب أتباعهم بتبديلهم تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، وهم في الحقيقة لم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً بل الحق أبلج، وقال سعيد بن جبير: الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل إبراهيم من النبوءة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم، وقراءة سعيد بن جبير: {أوتوا} بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال. وقال ابن عباس أيضاً: إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير ذلك، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقدت صحته، وقال قتادة: إن الآية في يهود خيبر، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة، وقالوا: نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك، فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك، وقال الزجّاج: نزلت الآية في قوم من اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكلموه في أشياء ثم خرجوا، فقالوا لمن لقوا من المسلمين: إن النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا للمسلمين وتمادوا على كفرهم، فنزلت الآية فيهم وقرأ جمهور الناس: {أتوا} بمعنى فعلوا، كما تقول أتيت أمر كذا، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي: {آتوا} بالمد، بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء.
قال أبو محمد: وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت، وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي، {أوتوا} بمعنى أعطوا، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير، {لا يحسبن الذي يفرحون} {فلا يحسِبنهم} بالياء من تحت فيهما وبكسر السين وبرفع الباء في يحسبنهم، قال أبو علي: {الذين} رفع بأنه فاعل {يحسب}، ولم تقع {يحسبن} على شيء، وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر: [الطويل]
وما خلت أبقى بيننا من مودة ** عراض المذاكي المسنفات القلائصا

وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله: {فلا تحسبنهم} بدلاً من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير، وقوله: {بمفازة} فاستغني بذلك عن تعدية الأولى إليها كما استغني في قول الشاعر: [الطويل]
بأيّ كِتابٍ أَوْ بأيِّةِ سُنَّةٍ ** تَرَى حُبَّهُمْ عاراً عليَّ وَتَحْسِبُ

فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر، والفاء في قوله: {فلا تحسبنهم} زائدة، ولذلك حسن البدل، إذ لا يتمكن أن تكون فاء عطف ولا فاء جزاء، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح وجودها بين البدل والمبدل منه، وقوله على هذه القراءة {فلا يحسبنهم}، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه، نحو ظننتني أخاه، ورأيتني الليلة عند الكعبة، ووجدتني رجعت من الإصغاء، وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت {أن} وأخواتها، فكما تقول: إني ذاهب، فكذلك تقول: ظننتني ذاهباً، ولو قلت: أظن نفسي أفعل كذا لم يحسن، كما يحسن: أظنني فاعلاً، قرأ نافع وابن عامر: {لا يحسبن الذين} بالياء من تحت وفتح الباء، وكسر نافع السين، وفتحها ابن عامر {فلا تحسبنهم} بالتاء من فوق، وفتح الباء، والمفعولان اللذان يقتضيهما قوله: {لا يحسبن الذين} محذوفان لدلالة ما ذكر بعده، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير، إلا أنه لا يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما، وقرأ حمزة {لا تحسبن} بالتاء من فوق وكسر السين {فلا تحسبنهم} بالتاء من فوق وكسر السين وفتح الباء ف {الذين} على هذه القراءة مفعول أول {لتحسبن}، والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه، كما قيل آنفاً في المفعولين، وحسن تكرار الفعل في قوله: {فلا تحسبنهم} لطول الكلام، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب، وقرأ الضحاك بن مزاحم {فلا تحسبنهم} بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء، و{المفازة}: مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة، وسمي موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات قال ثعلب: حكيت لابن الأعربي قول الأصمعي فقال: أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت {مفازة} لأن من قطعها فاز، وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليماً تفاولاً، قال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وبعد أن نهى أن يحسبوا ناجين أخبر أن لهم عذابا.
ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى وملكه فقال: {ولله ملك السماوات والأرض} الآية، قال بعض المفسرين: الآية رد على الذين قالوا: {إن الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] وقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير}. قال القاضي ابن الطيب وغيره: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص لأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحالات هو الموجود على مقتضى كلام العرب.
ثم دل على مواضع النظر والعبرة، حيث يقع الاستدلال على الصانع بوجود السماوات والأرضين والمخلوقات دال على العلم، ومحال أن يكون موجود عالم مريد غير حي، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم الصفات {واختلاف الليل والنهار} هو تعاقبهما، إذ جعلهما الله خلفة، ويدخل تحت لفظة الاختلاف كونهما يقصر هذا ويطول الآخر وبالعكس، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام، و{الآيات}: العلامات و{الألباب} في هذه الآية: هي ألباب التكليف لا ألباب التجربة، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى.

.تفسير الآيات (191- 192):

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
{الذين} في موضع خفض صفة {لأولي الألباب} [آل عمران: 190]، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر الله، وأن يحصر القلب اللسان، وذلك من أعظم وجوه العبادات، والأحاديث في ذلك كثيرة، وابن آدم منتقل في هذه الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه، وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك، وذهبت جماعة من المفسرين إلى أن قوله: {الذين يذكرون الله}، إنما هو عبارة عن الصلاة، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم، قال بعضهم وهي كقوله تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله} [النساء: 103]، هذا تأويل من تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك بمعنى فرغتم منها، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن الإنسان يصلي قائماً، فإن لم يستطيع فقاعداً، ظاهر المدونة متربعاً، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين السجدتين، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على التخيير، هذا مذهب المدونة، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، ثم على الأيسر، وفي كتاب ابن المواز، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره، وإلا فعلى الأيسر، وحسن عطف قوله: {وعلى جنوبهم}، على قوله: {قياماً وقعوداً} لأنه في معنى مضطجعين، ثم عطف على هذه العبادة التي ذكر الله باللسان أو الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى عظيمة، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته، والعبر التي بث: [المتقارب]
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ** تَدُلُّ على أنَّهُ واحدُ

ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره، وهذا هو قصد الآية: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض}، وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله تعالى كالناظر في عين الشمس، لأنه تعالى ليس كمثله شيء، وإنما التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي مخاوف الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كتفكر»، وقال الحسن بن أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته، وقال ابن عباش وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة، وقال سري السقطي: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكراً حتى طلع الفجر، فقال له ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله جل وتعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل} [غافر: 71]، ففكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
قال القاضي: فهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوسطها، وليس علماء الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه أفضل من هذا، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتاً في مسجد الأقدام بمصر، فصليت العشاء فرأيت رجلاً قد اضطجع في كساء له مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دونت منه سمعته ينشد: [المنسرح]
مُنْسَحِقُ الجسْمِ غائِبٌ حاضِرْ ** مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ

مُنْقَبِضٌ في الغُيوبِ مُنْبَسِطٌ ** كذاكَ مَنْ كَانَ عارفاً ذَاكِرا

يَبيتُ في لَيْلهِ أَخَا فِكَرٍ ** فهوَ مَدَى اللَّيلِ نَائِمٌ سَاهِرْ

قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه، وقوله تعالى: {ربنا} معناه يقولون ربنا على النداء، ما خلقت هذا باطلاً، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم: {سبحانك}: أي تنزيهاً لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم: {فقنا عذاب النار} إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون.
وقولهم: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته}، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء، خزي الرجل يخزى خزياً إذا افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره: كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزياً.
قال القاضي: أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى: {وما للظالمين من أنصار} هو من قول الداعين، وبذلك يتسق وصف الآية.